عندما تجد طوفاناً من البشر يتظاهرون احتجاجاً في شوارع المدن، لا تسأل عن التنظيم الذي يقف وراءهم أو يحرضهم أو يقودهم ويحركهم، لأنك بذلك تطرح السؤال الخطأ. ربما يكون السؤال الصحيح، هو: ما الذي يدفع ملايين الناس في مناطق مختلفة إلى الخروج في مظاهرات في وقت واحد مرددين الشعارات نفسها تقريباً، خصوصاً إذا كان الملايين ينتمون لفئات متباينة من المجتمع؟ بالطبع، الحال يختلف في الاحتجاجات المحدودة التي غالباً ما تكون نتيجة لمجهود متواصل لتنظيم ما أو لمجموعة من التنظيمات السياسية التي تعمل معا وبشكل منسق لتحريض الجماهير وحشدهم وتنظيمهم للتظاهر في أماكن محددة للتعبير عن مطالبهم التي تم صياغتها في عدد من الشعارات والهتافات التي يجري ترديدها. فالجماهير الغفيرة ليست "تحت أمر" أي قوى سياسية مهما بلغت قوة هذه القوى المنظمة ومهما انتشرت قواعدها.
ناقشنا في المقال السابق النقطة المتعلقة بالحراك الجماهيري العفوي، وأشرنا إلى أن هذا الحراك الجماهيري العفوي هو المؤشر الأكثر وضوحاً على أننا بصدد ثورة شعبية بالفعل، وناقشنا أيضا العلاقة الجدلية بين هذا الحراك العفوي وبين العمل المنظم لاكتمال الثورة وتحقيق أهدافه. وأثار المقال ردوداً وتعليقات موجهة بعد أن نشره موقع "فكّر تاني" على الفيسبوك، في شكلٍ من أشكال التفاعل التي تدل على أنه ترك أثراً ما أو مسَّ وتراً حساساً لدى خصوم "ثورة يناير"، ولدى من يتخوفون من أي حراك جماهيري آخر، ولدى من يخلطون بين الحدث وبين النتائج التي ترتبت عليه نتيجة ردود فعل قوى وأطراف فاعلة سعت إلى توظيف الحدث واستغلاله وتوجيهه بما يخدم مصالحها وأهدافها. يكون من الضروري في ظل هذه العلاقة الجدلية التمييز بين الحراك الشعبي العفوي وإبداعاته وبين العمل المنظم الذي يستهدف تحقيق غايات محددة، والتنويه إلى أن الثورات الناجحة هي الثورات التي يحدث فيها توافق بين التنظيمات الثورية وبين الجماهير المحتشدة، وهذا التوافق هو الذي يمكن التنظيمات من تطوير الحراك الجماهيري وتطوير شعارات الثورة ومطالبها وأهدافها مع التغيرات.
لا شك، أن "ثورة 25 يناير" وما مرت به من منعطفات مختلفة، وكذلك ثورة 30 يونيو 2013، وما أحدثته الثورتان من تغييرات على مستوى رأس السلطة في مصر، ستظل من الأحداث التاريخية الكبرى التي تستعصى على الفهم، ربما بسبب غياب المعلومات، وربما أيضاً بسبب تداخل التحليل مع المواقف والتوجهات، وهي سمة أساسية ملازمة لأي تحليل لحدث معاصر لا يزال يؤثر في الواقع وفي حركته. ومن بين المنعطفات المهمة في ثورة يناير 2011، والتي أعطتها زخماً ذلك الحراك الجماهيري الواسع في يوم "جمعة الغضب"، يوم 28 يناير 2011، وما ترتب على هذا الطوفان البشري من نتائج رسمت مسار الأحداث التالية، والذي تداخلت في رسمه اعتبارات أخرى ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالقوى المنظمة المختلفة الفاعلة والتي سعت إلى توظيف الحدث وتوجيهه. كذلك، سيظل مستعصياً على الفهم تجربة اللجان الشعبية التي ابتكرتها القوى الاجتماعية المختلفة في مصر على مستوى المناطق، بطول البلاد وعرضها رداً، على انهيار قوات الشرطة وانسحابها من المواجهة مع القوة القاهرة للجماهير. إن الالتفاف على هذه الحقيقة، متوقع من القوى المحافظة المعادية للثورة، وهو أمر مألوف في كل الثورات في العالم بدءاً من الثورة الفرنسية.
الإبداع الشعبي في يناير
لا شك في أن السرعة التي استجاب بها عموم المصريين لتشكيل لجان شعبية من متطوعين من الأحياء والمناطق لحماية المنازل والشوارع والمحال التجارية في مواجهة حالة الانفلات الأمني التي ترتبت على انهيار قوات الأمن المركزي التابعة للشرطة وانسحابها، وكذلك العمليات العشوائية والمنظمة لاقتحام مراكز الشرطة وإحراقها بعد الاستيلاء على الأسلحة وانتشار السلاح في أيدي مجموعات كثيرة من المصريين وكذلك عمليات فتح السجون. كانت بداية تشكيل هذه اللجان الشعبية دعوة بعض وسائل الإعلام المواطنين لتشكيلها ومن ثم كانت هذه اللجان محاولة من الشعب لتعويض غياب الشرطة، وكانت عاملاً مهما ساعد قوات الجيش على الانتشار لتأمين الأحياء والمناطق في مواجهة أي قوى أو أي تحركات تسعى لاستغلال الفراغ الأمني. وهذه التحركات لا تقتصر فقط على القوى المناوئة للثورة، وإنما تشمل أيضا مجموعات إجرامية نتيجة فتح السجون. لم تلعب هذه اللجان دوراً في مساعدة انتشار قوات الجيش فقط، وإنما كانت في كثير من المناطق والبلدات والمدن المصرية وسيلة لحماية أفراد الشرطة. يروي العميد خالد سلامة، وهو عميد شرطة عاصر الأحداث من موقعه في قسم بولاق الدكرور بمحافظة الجيزة في مذكراته التي نشرت العام الماضي في كتاب بعنوان "شاهد من أهلها: سيرة من الضفة الأخرى"، كيف وفرت اللجنة الشعبية التي تشكلت في المنطقة الحماية لضباط الشرطة وساعدتهم في العودة إلى قسم الشرطة وتأهيله، ولم تكن هذه هي الحالة الوحيدة. ولعبت هذه اللجان دورا رئيسياً في حماية أقسام الشرطة والمنشآت الحيوية في 30 يونيو.
بشكل عام توصف تلك اللجان الشعبية التي استهلت باللجنة الشعبية التي شكلها المصريون لحماية المتحف المصري من المجموعات المنظمة، المحلية والأجنبية، التي سارعت لاستغلال الاضطرابات لنهب ما بمكن نهبه من المتحف، على غرار ما حدث في العراق مع سقوط بغداد في التاسع من إبريل 2003، مع دخول القوات الأمريكية وهروب الرئيس واختفاء الجيش والشرطة العراقيين. يصف كثير من المراقبين ووسائل الإعلام المصرية، في ذلك الوقت، اللجان الشعبية بأنها "واحدة من الملاحم الوطنية التاريخية التي لا تنسى للمصريين"، والتي أظهرت تكاتفهم معا في أوقات الأزمات، وجعلت العالم كله ينظر إلى المصريين بعين أخرى تقدر قوتهم اللامحدودة وقدرتهم على حماية أمن الوطن في أصعب اللحظات. هذه التجربة لم تأخذ، للأسف، حظها المناسب من الدراسة والتحليل والتأمل، بسبب تباين المواقف بشأنها وبسبب تباينها واختلافها باختلاف المناطق والأحياء والمدن التي طبقت فيهه، من ناحية، ولكونها تجربة سعت جميع الأطراف المتصارعة للاستفادة منها وإعادة توظيفها في مراحل أخرى لاحقة، من ناحية ثانية، وللسرعة التي تعاملت بها الأجهزة الأمن مع هذه التجربة والعمل على تفكيكها وحلها من أجل استعادة سيطرتها على الشارع، من ناحية ثالثة.
ومع هذا، لفتت اللجان الشعبية نظر وسائل الإعلام العالمية، فنشرت صحيفة "دويتشه فيله" الألمانية تقريرا يوم 30 يناير 2011، أشارت فيه إلى هذه التجربة ودورها في حماية الممتلكات الخاصة من محلات تجارية وبيوت، وأشار التقرير إلى نجاح هذه اللجان في التصدي لمحاولات بعض "البلطجية" استغلال الوضع والقيام بالسلب والاعتداء على المواطنين، التي قدمت شهادات لمتطوعين شاركوا في هذه اللجان في أحياء مختلفة من القاهرة الكبرى، مثل مصر الجديدة، ومنطقة حدائق القبة في القاهرة وفي حي المهندسين ومنطقة الهرم في محافظة الجيزة. لم يشغل المتطوعون في اللجان الشعبية، التي تشكلت على مستوى الأحياء من أبناء الحي المعروفين لبعضهم، أنفسهم كثيراً بمن يقف وراء هذه المحاولات، لكنهم انشغلوا بالتصدي لها أياً كان مرتكبوها، وقاموا بتسليمهم لضباط الجيش، باعتبارهم السلطة القائمة بعد انسحاب الشرطة، وتعاون كثير من هذه اللجان مع ضباط الشرطة فور عودتهم للخدمة أثناء الاعتصام في ميدان التحرير والميدان الأخرى.
هذه اللجان كانت تعكس وعياً راقياً لدى المصريين ساعدهم على تمييز خصومهم من حلفائهم، وأظهر قدرتهم على إبداع الحلول في أصعب اللحظات. وكان نجاح هذه التجربة في 2011، وحالة التقدير والقبول الواسع من الجمهور ووسائل الإعلام، لقدرتها على حفظ الأمن سبباً لمطالبة بعض الأحزاب السياسية في مصر بنشرها أو تقنينها لسد الفراغ الأمني والدعوة لتشكيل لجان شعبية مرة أخرى للتعامل مع التهديدات التي صدرت عن بعض القوى السياسية الداعمة لجماعة الإخوان وقواعد هذه الجماعة في أحداث يونيو 2013، لمواجهة الاحتجاجات المتصاعدة ضد حكم الجماعة، لكن لم تستمر هذه اللجان كثيرا بسبب اختراقها من قبل "البلطجية" وأيضاً بسبب التواجد القوي للشرطة وقوات الجيش في الشوارع وفرض حظر للتجول بعد الإطاحة بحكم الإخوان في الثالث من يوليو، وتم حل هذه اللجان مرة أخرى.
سلبيات وإيجابيات وتشوش موقف النخبة
بالتأكيد، هناك سلبيات لمثل هذه اللجان إلى جانب كثير من الإيجابيات التي ارتبطت بشكل خاص باللجان الشعبية التي تشكلت بطريقة عفوية من قبل المواطنين ولم تكن لجان لقوى منظمة تدافع عن مصالح تلك القوى وأهدافها. فالتجرد والتركيز على المهمة العامة المتمثلة في حفظ الأمن وتلبية احتياجات المواطنين كان أحد نقاط قوة هذه اللجان التي تولت مهاماً متنوعة ومتباينة تعكس مستوى النضج في التنظيم الاجتماعي من منطقة لأخرى. كذلك، لم تكن هذه اللجان متوافقة بالضرورة مع المعتصمين في ميدان التحرير وأهدافهم، فهناك عدد لا بأس به من المتطوعين المشاركين في تلك اللجان يعارض المعتصمين ويدافع عن الرئيس مبارك، لكن لم يكن هذا الأمر قضيتهم وإنما قضيتهم كانت حماية الأحياء والمناطق والتصدي لأي مجموعات تسعى لإثارة الذعر بين السكان أو الاعتداء عليهم وعلى ممتلكاتهم.
وتباينت تجارب اللجان الشعبية من منطقة لأخرى، على نحو يعكس مستوى الفكر التنظيمي لدى المشاركين في هذه اللجان. ولا تتوافر معلومات أو بيانات موثقة أو دراسات أجريت حول هذه اللجان، ولكن صدر القليل من الدراسات والشهادات التي يمكن التعويل عليها في محاولة لرسم صورة لهذه اللجان وتوضيح الدروس التي يمكن استخلاصها من هذه التجربة. لن نتخذ هنا موقفاً سياسياً من هذه اللجان التي نشأت كاستجابة لظروف استثنائية غير عادية، التي لم يلتفت إليها بعض المعارضين لها بشكل مطلق من النخبة ومن الأحزاب السياسية، فقد صرح أحدهم لصحيفة مصرية في 12 مارس 2013، في خضم الصراع مع حكم الإخوان، بأن الدعوة لتشكيل هذه اللجان مؤشر على فشل الدولة، معلناً رفضه لدعاوى تقنينها مشيراً إلى أن حفظ الأمن مسؤولية أساسية للدولة وأجهزتها الأمنية والشرطية بموجب القانون، لكن يجب الحكم على التجربة في حدود أنها كانت استجابة لظرف استثنائي. بالتأكيد، إن الظروف التي صاحبت الصراع السياسي في مصر في فترة حكم جماعة الإخوان في عام 2013، دعت الأطراف المختلفة للجوء إلى هذه الفكرة التي أبدعها المصريون في 2011، لكن دون تمييز.
مرة أخرى، لا بد من تأكيد الاختلاف بين تجربة اللجان الشعبية كاستجابة مبدعة وعفوية، وبين اللجان الشعبية التي يعمل على تشكيلها تنظيم ما، فهي في هذه الحالة لن تخلو من شبهة أنها ميليشيا خاصة تعاون أجهزة الأمن وتسد نقصا في قدرتها على غرار ما حدث في 2013، وعلى النحو الذي تعكسه دراسة منشورة في مدونات "الجزيرة" في 18 يونيو 2018، عن تجربة اللجان الشعبية التي كانت بمثابة حكم ذاتي في منطقة كرداسة بمحافظة الجيزة في الفترة الممتدة من يناير 2011، وحتى يوليو 2013، فهذه التجربة تعطي مثالاً واضحاً للفرق بين اللجان الشعبية وبين الميلشيات التي تعمل كجناح لجماعة أو تنظيم، والتي اتضحت خطورتها فيما ارتكب من إرهاب في كرداسة بعد 3 يوليو 2013.
ربما كان من الممكن الاستفادة من بعض تجارب اللجان الشعبية، لاسيما اللجنة الشعبية في محافظة الإسكندرية التي كانت تشبه إدارة متكاملة للمحافظة أثناء ثورة يناير، وأشرفت على أنشطة كثيرة تراوحت بين حفظ الأمن والدفاع عن الأحياء والمواطنين إلى تنظيم المرور والإشراف على الأسواق والمخابز ووفرت خدمات مختلفة صحية وتعليمية للمواطنين، وكانت هناك تجارب قريبة من تجربة اللجان الشعبية في الإسكندرية في مناطق أخرى بدأت تتبلور كإدارة ذاتية بالفعل تستجيب للمواطنين واحتياجاتهم والدفاع عن حقوقهم ومصالحهم هذه التجارب جديرة بالدراسة والبحث، وكان من الممكن أن تكون الاستفادة أعظم لو أن لدينا دراسات وشهادات موثقة لهذه التجربة.
--------------------------
بقلم: أشرف راضي